الآراء في علَّة التكليف والفرق بينها


لخَّص شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وتبعه تلميذه ابن القيم رحمهما الله([1]) ـ مذاهب الناس في المقصود بالشرائع والعبادات والأوامر والنواهي في أربعة مذاهب:

المذهب الأول: قول سلف الأمة وأئمتها، وهم أهل العلم والأيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا مراده بما أمرهم به ونهاهم عنه، وهو أنَّ نفس معرفة الله ومحبته، وطاعته، والتقرب إليه، وابتغاء الوسيلة إليه؛ أمر مقصود لذاته، وأن الله سبحانه يستحقُّه لذاته، وهو سبحانه المحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذلُّ والخضوع والتألُّه إلَّا له، فهو يستحق ذلك لأنه أهلٌ أن يُعبد، ولو لم يخلق جنةً ولا نارًا، ولو لم يضع ثوابًا ولا عقابًا. فهو سبحانه يستحقُّ غاية الحبِّ والطَّاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته، ولما له من أوصاف الكمال، ونعوت الجلال. وحبه، والرضا به، وعنه، والذلُّ له، والخضوع والتعبُّدُ هو غاية سعادة النفس، وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته، والعين التي فقدت ضوءها ونورها، بل أسوأ حالًا من ذلك.

المذهب الثاني: قول القدريَّة النُّفاة من المعتزلة وغيرهم من المسلمين، وبعض أهل الكتاب؛ أن الله سبحانه عرَّضهم بها للثواب، واستأجرهم بتلك الأعمال للخير، فعاوضهم عليها معاوضةً، قالوا: والإِنعام منه في الآخرة بدون الأعمال غيرُ حسنٍ؛ لما فيه من تكدير منَّةِ العطاء ابتداءً، ولما فيه من الإجلال بالمدح والثناء والتعظيم الذي لا يستحقُّه إلا مكلَّف. وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفًا في الواجبات العقلية. وقد يقولون: إن الغاية المقصودة التي يحصل بها الثواب هي العمل، والعلم وسيلة إليه. حتى ربما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى، وأنها إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العملية.

المذهب الثالث: قول الجَبْرية - كالجَهم بن صفوان، وأبي الحسن الأشعريِّ، وخلقٍ كثير من المتكلِّمين، والفقهاء، والصوفية، وغيرهم - أنَّ الله سبحانه امتحن عباده بذلك، وكلَّفهم، لا لحكمةٍ، ولا لغايةٍ مطلوبة له، ولا لسبب من الأسباب، فلا «لامُ» تعليل، ولا «باء» سبب، إِنْ هو إلا محضُ المشيئة، وصِرفُ الإرادة، كما قالوا في الخَلْق سواء. وهؤلاء قابلوا مَن قَبْلَهم من القدريَّة والمعتزلة أعظم مقابلة؛ فهما طرفَا نقيضٍ لا يلتقيان.

المذهب الرابعُ: قول الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلى الملل أنَّ المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها، لتستعِدَّ بذلك لقبول الحكمة العلمية والعملية، وليست هي مقصودة في نفسها، وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة، والسياسات العادلة ـ وسيأتي تفصيله في مقالات تالية ـ.

الهامش:

([1]) «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح»، دار العاصمة، الرياض، 1419، 6/23-41. «مفتاح دار السعادة» 2/1157-1172.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات