من وعد الله للصالحين


من وعد الله للصالحين

الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله

{وَلَقَدْ ‌كَتَبْنَا ‌فِي ‌الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)} [الأنبياء]

‌‌المناسبة:

لما مضى في السورة ذكر الأنبياء عليهم السلام وأممهم وخَتم الحديث عنهم بذكر الساعة وقربها ومقدماتها وأحوال الخلق يوم القيامة، جاء في هذه الآية ذكر الأمة التي جاءت بعد تلك الأمم كلها، وهي أمة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم.

‌‌توجيه:

وإنما كانت هذه الآية في أمة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، لأنه لما تكلم على الأمم الخالية لم يبق الكلام إلَّا عليها، فخُوطبت بما قضاه الله وكتبه من إرث الصالحين الأرضَ. والمخاطبون به بهذه الآية المكية هم المؤمنون بالله الموحدون له المتبعون لرسوله محمد صلَّى الله عليه وسلَّم المصدق لجميع الرسل عليهم السلام، وهم أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهم الصالحون الموجودون يوم ذلك على وجه الأرض، فكانت الآية إعلامًا بما كتبه الله لهم ووعدًا بإرثهم الأرض.

‌‌الألفاظ:

«الزَّبور»: بمعنى المزبور، أي المكتوب. والمراد به جنس ما أنزله الله من الوحي على رسله عليهم الصلاة والسلام وأمر بكتابته. وقرأ حمزة: «الزُّبور» جمع زِبْر، أي كتاب، فعيَّنت هذه القراءة المراد بالزبور في القراءة الأولى الكتب المنزلة، لا خصوص زبور داود عليه السلام.

«الذكر»: المراد به هنا اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق الخلق، وجاءت تسميته بالذكر فيما رواه البخاري في مواضع من صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض»

ومما كتبه في الذكر ما أنزله على رسله عليهم السلام، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ ‌مَحْفُوظٍ (٢٢)} [البروج].

«الأرض»: جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق انصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق عليّ ابن أبي طلحة، وهي أصح طرقه.

«يرثها»: تنتقل إليهم من يد غيرهم، وأصل الإرث الانتقال من سالف إلى خالف، وقد يطلق في غير هذا الموضع على أصل التمليك مجازًا.

«الصالحون»: الصالح من كل شيء هو ما استقام نظامه فحصلت منفعته، وضده الفاسد وهو ما اختل نظامه فبطلت منفعته. ويظهر هذا من تتبع مواقع الاستعمال:

فإذا قالوا: هذه آلة صالحة، عنوا أنها محصلة للمنفعة المرادة منها لانتظام أجزائها، وإذا قالوا آلة فاسدة عنوا أنها لا تحصل المنفعة لاختلال في تركيبها.

والصالح في لسان الشرع ـ قرآنًا وسنة ـ لم يخرج عن هذا المعنى حيثما جاء.

فالصالح هو من استنار قلبه بالإيمان والعقائد الحقَّة، وزكت نفسه بالفضيلة والأخلاق الحميدة، واستقامت أعماله وطابت أقواله، فكان مصدر خيرٍ ونفع لنفسه وللناس.

استقام نظامه في عقده وخلقه وقوله وعمله، فعظمت وزكت منفعته، وهذا هو معنى الصالحين حيثما جاء كما في قوله تعالى: {‌وَالشُّهَدَاءِ ‌وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]ـ وكما في التشهد: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وقد بيَّن القرآن من هم الصالحون بيانًا شافيًا وكافيًا بذكر صفاتهم مثل قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَيَنْهَوْنَ ‌عَنِ ‌الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)} [آل عمران].

‌‌المعنى:

يخبرنا الله تعالى أنه كتب في الكتب التي أنزلها على رسله من بعد ما كتب في اللوح المحفوظ الذي هو أصل تلك الكتب، أنَّ الأرض يرثها ويملكها عباده الصالحون أهل العقائد الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال المستقيمة الذين ينفعون العباد والبلاد.

‌‌تطبيق:

خاطب الله بهذه الآية المؤمنين بمكة وهم في قلَّة عَدَدٍ وعُدَدٍ يعِدُهم بذلك ـ لا بطريق صريح ـ أنهم يرثون الأرض ويكون لهم فيها القوة والنفوذ. ويبعثهم بتعليق الوعد بوصف الصلاح على التمسك به والازدياد منه والاستمرار عليه، ثم صرَّح لهم بالوعد بعدُ في سورة النورـ وهي مدنية بقوله تعالى: {‌وَعَدَ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌مِنْكُمْ ‌وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)} [النور].

وقد حقق الله لهم هذا الوعد ففتح لهم الفتوح وأورثهم مُلك كسرى وقيصر، ومدَّ لهم ملكهم في الشرق والغرب، وأولئك الذين كانوا في قلة وخوف يوم نزلت الآية المكية، هم الذين شاهدوا ذلك النصر وتلك الفتوح وترأسوا ذلك الملك العريض.

‌‌تعميم وتقييد:

عُلِّق الوعد بالوصف، وهو الصلاح، ليعلم أنه وعدٌ عام، ولتعلم كلّ أمة صالحة أنها نائلة حظها ـ ولا محالة ـ من هذا الوعد. واقتضى هذا التعليق بالوصف أيضا تقييده بأهله، فإذا زال وصف الصلاح من أمة زال من يدها ما ورثت. ونظير هذا التقييد قوله في آية النور: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)} [النور].

‌‌تنظير:

مثل هذه الآية فيما تضمنته من الوعد الذي يقوّي به قلوبهم ويثبت إيمانهم ويظهر به صدق نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم بما أعلمه به من غيب، أحاديث صحيحة. كقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لخباب رضي الله عنه وقد لقي الصحابة من المشركين شدَّة فسأله أن يدعو فقال له النبي صلى الله عليه وسم: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مِفرَق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» [البخاري].

وكقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعدي بن حاتم: «فان طالت بك حياة لَتَرينَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوز كسرى» [البخاري]، وقد امتدت به الحياة حتى رأى ذلك، ومثل هذا أحاديث أخرى في الصحيح. فقد تطابقت الآيات والأحاديث في هذا الوعد، وقد صدق الله وعده لعباده الصالحين. وصدَّق نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم بما لم يكن يعلمه أحد ولا يرى شيئًا من أسبابه بل لا يرى إلا ما هو مناف له. ولكن العاقبة للمتقين.

‌‌إشكال وحله:

قال أناس: إن أرض الدنيا كما يستولي عليها الصالحون يستولي عليها غيرهم، والأرض التي لا يرثها إلا الصالحون هي أرض الجنة، فيجب تأويل الآية بها.

والجواب: أن هذا التأويل إنما يحتاج إليه أن لو كانت الآية هكذا «إن الأرض لا يرثها إلا عبادي الصالحون» بطريق الحصر فيهم. أما لما كانت الآية لا حصر فيها فلا حاجة إلى هذا التأويل، بل في لفظ الإرث وربطه بوصف الصلاح دلالة على أنها كانت لغيرهم، فانتقلت إليهم، وأنها تزول مع زوال وصف الصلاح. وقد جاء التنبيه على أن الأرض يرثها الصالحون وغيرهم في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ‌يُورِثُهَا ‌مَنْ ‌يَشَاءُ ‌مِنْ ‌عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، فيرثها الصالحون نعمة ويرثها غيرهم فتنة ونقمة كل ذلك حسب مشيئة الحكيم الخبير.

‌‌إيراد وجوابه:

قد يقال: فما هي الفائدة إذن في تخصيص الصالحين بالذكر في هذه الآية؟

والجواب:

1 - أن هذه الآية خوطب بها أول الناس الصحابة بمكة، وهم الصالحون في الأرض ليعلموا ما وعدهم الله به وليعلموا أن قوة الباطل إلى ضعف، وأن ضعف الحق إلى قوة.

2 - ولأن شأن الصالحين ـ أنى كانوا ـ أن يكونوا قليلًا سيَّما أول أمرهم فهم بحاجة إلى أن يعلموا هذا الوعد ليزدادوا إيمانًا وقوةً وثباتًا.

3 - ولأن الخلق مفتونون بالكثرة في العدد والعدَّة غافلون عن القوة الروحية والأخلاقية وما ينشأ عنهما من استقامة لا يحسبون لذلك حسابًا، فيحتاجون إلى العلم بأن الصالحين نائلون حظَّهم من هذا الوعد، وإن كانوا قلَّة في الناس. {كَمْ مِنْ ‌فِئَةٍ ‌قَلِيلَةٍ ‌غَلَبَتْ ‌فِئَةً ‌كَثِيرَةً ‌بِإِذْنِ ‌اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

‌‌تحذير من تحريف:

رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض ـ وهي مدنية مادية في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان ـ فقالوا: إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض. وزعموا أن المراد بـ(الصالحون) في الآية الصالحون لعمارة الأرض.

فيالله للقرآن. وللإنسان. من هذا التحريف السخيف! كأن عمارة الأرض هي كل شيء ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق، واعوجت الأعمال، وساءت الأحوال، وعذِّبت الإنسانية بالأزمات الخانقة، وروِّعت بالفتن والحروب المخربة الجارفة، وهدِّدت بأعظم حربٍ تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها.

هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمَّرت الأرض وأفسدت الإنسان، ثم يريد هذا المحرِّف أن يطبق عليها آية القرآن: كتاب الحق والعدل والرحمة والإحسان. وإصلاح الإنسان ليصلح العمران.

فأما الصالحون فهو لفظ قرآني قد فسره القرآن كما قدمناه، وقد شرَّف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله: «عبادي»، فحمله على الصالحين لعمارة الأرض تحريف للكلام عن مواضعه أبشع التحريف وأبطله، فليحذر المؤمن منه ومن مثله من تحريفات المبطلين والمفتونين.

‌‌موعظة وإرشاد:

فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظَّها من هذا الوعد، أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بيَّنه القرآن، فأمَّا إذا لم يكن لها حظٌ من ذلك الصلاح فلا حظَّ لها من هذا الوعد، وإن دانت بالإسلام. ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء، من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء، وكل محاولة لصدها عن غايتها ـ وهو آخذ بها ـ مقضي عليها بالفشل.

سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحوِّلها؟ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ ‌تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] و[الفتح: 23]، {‌وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] ثم {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا ‌يَسْتَأْخِرُونَ ‌سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)} [يونس: 49].

المصدر:

مجلة الشهاب: المجلد 6، المقال 11، الصفحة 339 - 345، جمادى الثانية 1354 - سبتمبر 1935.

انظر: «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير»، عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (ت: ١٣٥٩ه)، علق عليه وخرج آياته وأحاديثه أحمد شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، الطبعة: الأولى، ١٤١٦ - ١٩٩٥، (ص: 345 - 350).

«آثار ابن باديس» تحقيق عمار طالبي، الناشر: دار ومكتبة الشركة الجزائرية، الطبعة: الأولى، عام ١٣٨٨ - ١٩٦٨، (1/ 350 - 357).

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©