النجاح والخلافة وتحريف المفاهيم



نص المنشور:

في معنى الخلافة في الأرض...

النجاح هو أكثر ما يجلب الأعداء للإنسان، فما من نعمة تجذب الحساد والحاقدين غير النجاح إني أقول لك والحق أقول لك: لا تنجح لقهر الأعداء ...فإنك إن تفعل أفنيت العمر وأنت تحارب ...ليس للنجاح غاية سوى تبوء المنزلة الصحيحة لتحقيق أهداف وجودك في هذه الحياة وهي إقامة الخلافة فيها وإعمارها ...فاختر الميدان الذي ترى نفسك فيه وترى رضى من استخلفك ...ودعك من كل ناعق يحول بينك وبين هذه الغاية. «محمد غانم».

التعليق:

1- خلقنا الله لعبادته فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]، وهذه تسمى لام التعليل، أي أنَّ العلة الحقيقية من وراء خلق الإنسان هو أن يكون عبدًا مطيعًا لله باختياره، فإذا فعل ذلك فقد حقق الغاية الحقيقية من وجوده والتي هي سبب سعادته وفلاحه ونجاحه، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، قال ابن القيم رحمه الله: «فالغاية الحميدة التي يحصل بها كمال بني آدم وسعادتهم ونجاحهم هي معرفة الله ومحبته وعبادته وحده لا شريك له، وهي حقيقة قول العبد لا اله إلا الله، وبها بعث الرسل، ونزلت جميع الكتب، ولا تصلح النفس ولا تزكو ولا تكمل إلا بذلك». [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة 2/ 1160 - 1161. ط. عالم الفوائد].

2- يعدل كثيرٌ الكتَّاب عن مصطلح «الفلاح» الذي يكثر ذكره في القرآن إلى مصطلح «النجاح»، مع أن مدلولهما قريب من بعضهما جدًا، وكلاهما دالٌّ على الفوز وتحقيق الأهداف ونيل السعادة، وإذا تصفحنا مصطلح «الفلاح» في القرآن نجده دال على الفوز بالأخرة وأنَّ المفلحين هم المؤمنون الذين عبدوا ربهم وأطاعوه وأن الفلاح في الدنيا هو في عبادة الله وطاعته وهذا كثيرٌ جدًا يكفي فيه سورة «المؤمنون»، ومن استخدم مصطلح «النجاح» بمثل معناه في مصطلح «الفلاح» الشرعي، فلا تثريب عليه، لكن المشكلة عند من اختلت عندهم المفاهيم وانقلبت لديهم الغايات، فأصبحت الوسيلة غاية وأصبح العمل لعمارة الدنيا هدف خُلق الإنسان لأجله، فتجد هؤلاء يعدلون عن مصطلح «الفلاح» الذي أكثر منه القرآن إلى مصطلح «النجاح» بالمفهوم الجديد، لكي لا تتوجه عليهم سهام النقد والتحريف لكتاب الله، ثم اسقاطه على المفهوم المنحرف للخلافة لديهم في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، من خلافة البشر بعضهم بعضًا ـ كما هو تفسير السلف ـ إلى مفهوم الخلافة عن الله في عمارة الأرض، فأصبح الذي يعمل لأجل الدنيا هو الناجح الذي حقق مفهوم الخلافة الحقيقي! وهذا بعينه مفهوم التفسير السياسي للدين، الذي جعل الشريعة كلها ومن ضمنها العبادات، جاءت لتكون وسائل لتحقيق التفوق الدنيوي والكسب المادي الذي به يتحقق الفوز بالجنة، هذا عند الحركيين من الإسلاميين الذين يقرون بالمعاد والحساب والجنة والنار، وأما عند ملاحدة الفلاسفة كأمثال ابن سينا والفارابي فلا جنة ولا آخرة ولا معاد إنما هو تخييل وتمثيل لا أكثر، فاتفقوا في الأصل واختلفوا في النتيجة.

3- إنَّ مفهوم النجاح والفلاح الشرعي في الفوز برضى الله وتحقيق السعادة الحقيقية بدخول الجنة والنجاة من النار، لا يعني إهمال الدنيا وعمارتها وتحصيل وسائل التقدم والرقي الدنيوي، لكن تحصيل ذلك يكون بالقدر الذي يعين على عبادة الله وطاعته، وتحقيق التوحيد وابطال الشرك وأن يكون العمل لله هو الغاية المطلوبة، وعدّ ما كان من الرقي والتقدم إذا تعارض مع الغاية الحقيقية هو من زخرف الحياة الدنيا وزينتها، وعلى هذا يجب أن يقاس مفهوم النجاح والفلاح، فكل ما أعان على تحقيق عبادة الله وحده، وذلَّل الطرق لذلك فهو العمل الناجح بلا شك وصاحبه من الفائزين إن كان مخلصًا، بينما من جعل عمارة الأرض هي الغاية التي خُلق من أجلها الإنسان بله جعلها هي المرادة من الاستخلاف، وأن من ملك الدنيا هو الخليفة الذي جعله الله في الأرض، فهذا تغيير للفطرة لتصبح الحياة ماديَّة لا معنى لها إلا التنافس على حطامها بحجة عمارتها، وهو ما يجلب الحقد والحسد كما أشار إليه كاتب المنشور، فإن لم تتوفر أسباب هذه العمارة  ـ كما هو واقع المسلمين ـ تسلل اليأس والقنوط عند البعض، وربما التطرف والإرهاب عند الآخرين بفعل الحقد والحسد على حطام الدنيا ولأن الغاية المنشودة فشلت فلعلها تتحقق بالقوة والبطش.

4- العمل الصالح في مفهوم الكتاب والسنة إنما ينصرف على العمل بطاعة الله وعبادته وليس مطلق كل عمل صالح وإن كان العامل للخير مطلقًا يؤجر على نيته، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)} [النحل]، قال ابن كثير رحمه الله: «هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا ـ وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله ـ بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت». [تفسير ابن كثير 4/ 601. ط: طيبة]. والله أعلم.

راجع للمزيد:

- (المراد الأهم من العبادات بين الطاعة وجمع الحسنات).

- (هل شرعت العبادات صيانة للنفوس عن العدوان والبغي والظلم).

- (عمرو خالد وحكمة الخلق).

- (داعش صنيعة التفسير السياسي للإسلام).

- (الاستخلاف هو عمارة الأرض).

- (الجهود العلمية في نقض التفسير السياسي للإسلام).

- (بل التفسير السياسي قنطرة العلمانية).

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©